النسيج
- استخدم المسلمون الفنون النسيجية في جوانب حياتهم كافة، سواء لتلبية حاجاتهم اليومية من الملابس والأثاث أو إرضاء لرغباتهم الكمالية والفاخرة. فلم يتمكن أي مجال آخر التعبير بصورة أفضل عن أسلوب ونمط حياتهم والشعور الذي يخالجهم حيال الجمال، والروعة والقدسية.
وبموجب الأعراف والعادات السامية، وكذلك المثال الذي جسده النبي، يتعين على المرء ارتداء ملابس طويلة وفضفاضة. فأصبحت الألبسة، والأردية، والعمائم، والمناديل التي تكتسي طابعاً دالاً على العظمة والروعة وسيلة تبعث في المرء روحاً ونفساً ترتقي به إلى مقام سامٍ يعلو فيه عن سائر كائنات الخالق. ومن بين القواسم المشتركة العديدة يلتقي المسلمون واليهود ومسيحيو الشرق عند هذه النقطة بالتحديد. كما يعبر هذا الزي البسيط واللائق في آن عن القوة والنفوذ؛ إذ أن مراتبه تقوم بكاملها على جودة الرداء وهيئته وزينته، حتى لو حافظت مقوماته على ثباتها. ففي عهد الخلفاء، جسدت مؤسسة مستوحاة من النموذجيْن البيزنطي والساساني الروابط والعلاقات التي تجمع بين النسيج والسلطة، ومن هنا نشأ الطراز: المشغل الذي يخيط ثياب الحاكم فحسب، فأصبح بمثابة امتياز يخص الطبقة الحاكمة تماماً مثل حالة صك النقود وصناعة الورق. فتستعمل كلمة الطراز الفارسية الأصل التي ترتبط بفكرة التطريز للحديث عن شريط النقوش الكتابية أولاً الذي يحمل اسم الخلفاء، وألقابهم وتعابير تمجيدهم. ويشمل هذا المفهوم بصورة عامة القماشة التي تحمل هذه الشرائط المنقوشة، ومن ثم المشاغل الملكية التي تُعنى بصناعتها. فكان دار الطراز إمّا مشغلاً خاصاً يقع في القصر، أو عاماً فيصبح بيع منتجاته في هذه الحالة مصدراً هاماً يعود بالعائدات والإيرادات على خزينة الدولة. وعلى صعيد آخر، كانت هذه المشاغل تُعنى بصناعة "الخلع" وهو رداء يتسم بالعزة والشرف يقوم الخليفة بتوزيعه على الشعب مرتيْن كل عام (الخلع هو الرداء الوحيد الذي يحمله المسلم معه إلى القبر). كما قامت هذه المشاغل بصناعة أنواع الأقمشة الفاخرة كافة التي تغذي سياسة السحر، والنفوذ، والمنح والهدايا.
وخلال القرون الوسطى، قامت صناعة الأثاث على النسيح بشكل رئيس من أغطية ووسائد إلى سجاد وبسط وستائر الأبواب تعيدنا بالذاكرة إلى الحياة في الصحراء وترف المملكات في العصريْن البيزنطي والساساني. فأبدى العرب إعجابهم بهذا التناقض بين الحياة الحضرية والبدوية الذي يشمل المواد الواقعية والحقيقية، فبرز هذا التناقض جلياً في أبهة البلاط. وفي حال كان الستار الذي يحجب الخليفة عن أعين المشاهدين ذكرى تعيدنا إلى القصور الساسانية، فإن السجاد الذي يحدد إطار السلطة والنفوذ، والأجواخ التي ترسم غرفاً داخل القاعات الكبيرة، والوسادات التي يتكىء إليها الناس تعيدنا إلى خيم كبار الأشراف وشيوخ الجماعات. وغالباً ما تحدث المؤرخون عن القصور القماشية التي تحيط بها أسوار الكتان، فأمست مدناً قماشية يجد فيها العباسيون والفاطميون المتعة والراحة والسرور. كما تكدست في مخازن القصر الرايات والبيارق المزينة بالزخارف التصويرية. ففي عملية النهب التي وقعت عام 1067 في القاهرة، كان منزل المستنصر يزخر بكميات هائلة من الأقمشة الفاخرة. ولطالما اعتبرت أقمشة الأثاث والملابس الفاخرة المطرزة بمثابة اكتناز أو حافظة معدنية، حتى أن العرب يستخدمون كلمة "خزانة" لوصف خزانة الملابس وخزينة الدولة، كما تذكرنا بأن الناس غالباً ما كانوا يتقاضون أجوراً ومكافآت على شكل أقمشة. ولا تزال هذه الذكرى قائمة في بنية المدن الكبرى حيث تقع أسواق الأقمشة على مقربة من المصارف. وفي الاحتفالات بلغ النسيج الفاخر أوجه، كما في احتفالات افتتاح القناة في القاهرة حيث بُسط السجاد، وفتحت المظلات ورُفعت الأعلام، وظهرت الجلول المزركشة والحلل في إطار مدهش واستثنائي.
ولامس هذا الإشراق والسناء العالم الديني، إذ نعلم قيمة سجادة الصلاة التي ترسم على الأرض محراب جامع صغير، فتشير هذه الرمزية إلى مكان مكرس للعبادة والخشوع. وفي السياق نفسه، لا بد من الحديث عن الكسوة وهي قطعة من القماش مطرزة بالآيات القرآنية تكسا بها الكعبة المشرفة ككسوة شريفة. وتُصنع الكسوة كل عام من 700 متر مربع من القماش الفاخر وذلك في مشاغل الخليف
.